بسم الله الرحمن الرحيم
مطري
(1)
صبي صغير...ناحل الجسم...خائر القوى....طبع الزمان بصماته باكرا على وجهه الضئيل
أثوابه رثة...وهو مع كل هذا يحمل بين جنبيه فؤادا ذكيا ...وإصرارا عجيبا على بز الظروف ومناكفة الأيام
له ابتسامة طاغية ...ووجه صبوح يشي بمستقبل واعد
له أخت تصغره بعامين تقريبا لا تكاد تفارقه...لا تبتعد عنه كثيرا في ملامحها...ضرب الفقر بأطنابه على تلك الأسرة الصغيرة البائسة..
يعيش الاثنان في هدوء وسكينة مع أبويهما في بيت متهدم...متهالك..حقير ...وهبه لهم أحد المحسنين ...في ذلك الوادي الوادع المستكين...
تعيش الأسرة على ما تجود به أيادي أهل الخير في حي لا يختلف ساكنوه عن تلك الأسرة كثيرا في قلة ذات اليد وشظف العيش...ورتابة الحياة
(2)
كنت أشاهد ذلك الصبي كلما عبرت ذلك الزقاق المحاذي لمنزلهم المتواضع
وكثيرا ما شاهدت الأم بلباسها التقليدي ...ترعى شاتين هزيلتين بجوار البيت ...تجلس في صمت رهيب بجوارهما...والصبي واخته يتقافزان هنا وهناك بمرح طفولي برىء
أما الأب فرجل مهيب ذو لحية بيضاء ...باهت الملامح...تقرأ في عينيه الذابلتين ألف قصة وقصة
أنهكه الفقر...حتى لا تجد في وجهه المكدود مكانا لسعادة أو انشراح
(3)
سألت أمي ذات يوم...من تكون تلك الأسرة؟من أين أتت؟لماذا لا يعرفهم أحد؟يعيشون معنا كالأغراب
في حين أن لهم نفس سحناتنا ولكنتهم مثلنا!!
قالت يا ولدي ..كانوا يعيشون في بلدة مجاورة لبلدتنا مدة من الزمن...ثم بعد أن خذلتهم الحياة عادوا لبلدتهم الأصلية علهم يجدون العون والمؤازرة
(4)
رحلت بعيدا عن بلدتي فترة من الزمن...كانت كافية لأن تتبدل فيها الظروف والأحوال
عدت بعد فترة .....عبرت ذلك الزقاق...
لكن لم أشاهد ماكنت معتادا على مشاهدته ...قيل لي قد رحل الأب لجوار ربه
وتبعته الأم بعد فترة قصيرة
سألت عن الصبي واخته؟
الصبية تعيش مع إحدى الأسر كخادمة...
أما الصبي....فإنه يعيش لوحده في منزل آخر
كانت تصلني أخباره....كان يدرس بإحدى المدارس ...لكنه اضطر لترك الدراسة
حتى يواجه متطلبات الحياة
التقيته مرة في إحدى المناسبات...كان الكل يسخر منه...الكل يحتقره...كان على حافة الجنون
كان فقره هذه المرة أشد وأنكى من تلك المرات التي قابلته فيها في صغره
(5)
كان لا يمد يده للناس...كان يحاول ويحاول أن يحصل على لقمته بعرق جبينه
لدرجة أنه كان يشتري شرائط فارغة للتسجيل ثم ينسخ عليها ويبيعها
(6)
وأخيرا وجد مقتولا في منزله المتداعي........
يا ترى هل نحر نفسه كما قيل؟
أم أن الله رحمه؟!!